في المجتمعات الإسلامية المبنية على التضامن والإحسان — وهي القيم التي أمر بها الله ورسوله — تُعَدّ كفالة اليتيم في الإسلام من أعظم صور الرحمة والبر، ومن أوضح تجليات الإنسانية في أسمى معانيها. فالكفالة ليست مجرد تبرع خيري أو عمل مؤقت من أعمال الإحسان؛ بل هي عهد بالرعاية المستمرة، ومسؤولية دينية وأخلاقية تحفظ كرامة الطفل الذي فقد أحد والديه أو كليهما، وتعيد له الأمان الذي فقده والاستقرار الذي يمنحه فرصة جديدة ليحلم بمستقبل أفضل.
أمر الله سبحانه وتعالى بالإحسان إلى اليتامى ومراعاة ضعفهم وحاجتهم، فقال:
فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ
“فأما اليتيم فلا تقهر” [الضحى: 9].
كلمة واحدة في القرآن الكريم تختصر معنى الرحمة والرعاية والحماية — نداء إلهي لكل مؤمن ألا يترك اليتيم وحيدًا ضعيفًا بلا سند.
منذ فجر الإسلام، رفع هذا الدين من مكانة اليتيم، وجعل كفالته من أعظم القربات إلى الله. فقد كان النبي ﷺ نفسه يتيماً، ليكون مثالاً خالداً على عناية الله ورحمته بالأيتام. قال تعالى:
أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى
“ألم يجدك يتيماً فآوى.” [الضحى: 6].
فكيف لا نرحم اليتيم، وقد ذاق الحبيب ﷺ مرارة اليُتم، فآواه الله ورعاه؟ وقال النبي ﷺ:
«أنا وكافل اليتيم في الجنة هكذا» وأشار بالسبابة والوسطى (رواه البخاري).
وما أعظم هذه المنزلة التي لا تُنال إلا بالرحمة الصادقة — فأن يكون المرء رفيق النبي ﷺ في الجنة هو أعظم الجزاء وأسمى الأجر.
لكي تكون كفالة اليتيم في الإسلام عبادةً كاملةً يُثاب عليها المسلم من الله، لا بدّ أن تقوم على ضوابط تحفظ كرامة اليتيم وتضمن أن تكون الكفالة باباً للرعاية لا للأذى، ومن أهمها:
الكفالة عبادة تُبتغى بها مرضاة الله وحده. قال النبي ﷺ:
"إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى"
ولا تكون لأجل المدح أو السمعة، بل هي تعبير عن الإخلاص الصافي الذي يبارك الله به في المال والحياة.
يحرّم الإسلام التبنّي بمعناه الغربي – أي تغيير نسب الطفل – حفاظاً على الهوية ومنعاً لاختلاط الأنساب. قال الله تعالى:
ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ
"ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله" [الأحزاب: 5].
تحافظ الكفالة على نسب اليتيم مع منحه الحب والدعم والرعاية الأبوية المعنوية.
يحذر الله تعالى بقوله:
إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا
"إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلماً إنما يأكلون في بطونهم ناراً" [النساء: 10].
يجب أن يكون الكافل أميناً، يستخدم أموال اليتيم لمصلحته فقط دون إسراف أو تعدٍّ.
الكفالة ليست طعاماً وكسوة فقط، بل تشمل التربية الأخلاقية والتعليمية، وتنشئة الطفل على الإيمان والصدق والرحمة.
من يكفل يتيماً في بيته يجب أن يعامله بالعدل واللطف كما يعامل أبناءه، ليشعر اليتيم بالانتماء لا بالمنة.
كفالة اليتيم ليست عملاً فرديًا فحسب، بل هي ركيزة من ركائز العدالة الاجتماعية في الإسلام. فهي تعيد التوازن إلى حياة الطفل الذي فقد السند، وتعالج الفقر المادي والنفسي معًا — لتساعد اليتيم على النمو ليصبح فردًا صالحًا ومنتجًا في المجتمع.
كل يتيم مكفول يعني أسرة أقوى، ومجتمعًا أكثر استقرارًا، وأمةً أكثر رحمة. فالإسلام لا يسعى فقط لإطعام اليتيم، بل ليضمن أن يشعر بأنه مذكور ومحبوب ومحاط بالعطف والتقدير.
قال الله تعالى:
كَلَّا بَل لَّا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ“كلا بل لا تكرمون اليتيم” [الفجر: 17].
تُوبِّخ هذه الآية من يُهمِلون الأيتام أو يُسيئون معاملتهم، مُذَكِّرةً بأن الكرامة الحقيقية تكمن في الرعاية والرحمة — لا في العطاء المادي فحسب.
اجتماعيًا، تُساهِم كفالة اليتيم في مكافحة الفقر والتشرّد والجريمة، وتفتح أبواب التعليم والعمل أمام الأيتام ليصبحوا أفرادًا منتجين يساهمون في بناء المجتمع بدل أن يكونوا عبئًا عليه.